وزهرٌ أينع في يبوس..

مارس 12, 2008 أضف تعليق Go to comments

image002.jpg

رويداً رويداً.. يختنق الليل ببحّة المرتعش الصوت لينبلج ضياء الصباح الذي يسافر عبر اتكاء الحنايا ناشراً في ثنايا البيت ضوءاً يفضح العوز على وجنات ذات الإحدى عشر خريفاً.. ينحشر الهواء ضيقاً ولا يعود الصبح يتنفّس.. ينحسر المدى ويغادر الفرح كسيراً على نصل الحلم..

تستيقظ الصغيرة المتدثّرة بوسائد الحلم على أضرحة تعفّن فيها الصمت وتحوّل الكلام إلى سعالٍ يستوطن أطراف فراش والدتها العجوز.. تلملم بقاياها وتلفّ وشاح الجراح البالي على والدتها، تودّعها الأخيرة بحشرجة غصّة تقتات هواجساً جائعة من جسدها النحيل.. وتشيّعها بدموعٍ محتضرة.. تشتم في قرارة نفسها لعنة النهار بكلماتٍ كسيحة..

تنتعل الصغيرة أحذية أيامها البائسة وتلتحف معطف العوز.. وتنطلق.. ينحدر الطريق بقسوة.. طفولة الخطوات تفضح رتق الثياب، يتشقّق جيبها بدراهم البعثرة، تتعثر بأصوات الجراح التي تصدح في رأسها الصغير.. تلعق الوحل إنهاكاً، تتحامل على نفسها متكأةً على برد الرصيف لتزاول البقاء لثماً للأراض التي عانقت الأحذية.. ثم تقف لتستمرّ في السير.. (مصابيح الشارع تبدو هزيلة هذا اليوم ربما يوهنها الشتاء هي الأخرى) تتحدث إلى نفسها ببراءة..

في زاوية الزقاق القديم تفترش صقيع الأرض ثم ترتب قليل بضاعتها. تفيض الوجوه.. والأماكن.. بالغيّاب.. وتراب الطريق يشاكس الخطى المعدومة للظلال التي حجبها زحام النهار المتخم بالبرد.. تهب نسمة شتائية قارسة أخرى فوق الوجه البارد.. ترتعش ثنايا الفتاة المتدثّرة ببردها.. وترسم الريح على مفرق الملامح حزناً باهتاً..

الرصيف باردٌ جداً.. وما زال الشارع ندياً من مطر البارحة، واليوم عطلة.. المارة قلائل.. لكن الصغيرة تستمرُّ في مراقبة الشارع وأشجار الكستناء المقابلة.. (ستزهر أشجار الكستناء هذا الشهر، سأراقبها.. سأرسمها.. ستبدو جميلة) تداعب نفسها بهذه الكلمات هاربةً من جحيم البرد.

– هل لي بهذه الكعكة أيتها الجميلة.

ذا الصوت الخشن اقترب منها وهو يلتقط الكعكة الصغيرة ويدسّ في يدها الدراهم..

– سيدي.. دفعت أكثر مما يتوجب عليك..!!

– لا بأس صغيرتي.. اشتري بالباقي قلماً ودواة..

انفرجت أسارير الصغيرة مع ارتفاع شمس الظهيرة وقتها.. أحست بنسيم لطيف هبّ من بين الأزقة العتيقة.. وفي يدها أحسّت بالقلم، تسلّل شيء من ذلك القلم إلى راحة يدها، شيء عذب مثل أول نسمة تهبّ من قبل البحر.. شيء هادئ جداً ودافئ.. كورقة تسقط حين لا ريح تهب..

توقف الزمن.. افترشت الأرض من جديد.. أخرجت من جرابها كرّاسها الصغير.. الريح هي الأخرى بدأت تعبث برتقٍ في ردائها الممزق.. تبتسم وهي تشعر بدغدغة الريح لجسدها.. تحتضن كرّاسها بكلّ لهفة، تستند على ركبتها الصغيرة، ثم تبدأ بواجبها المدرسيّ..

وكأني بها تحمل حلماً بكفيها تخشى اندلاقه.. حلمٌ ينسدل بفتنة من ضفاف الأوراق متشبثاً بأطرافٍ ملكوتية.. حلم برائحة المطر العابقة صباح هذا اليوم.. يتساقط كالندى على وجنات ذلك المخلوق القادم من عالم الطهرانية.. ذلك المخلوق الهارب من أسواط القهر من ثقب الفجيعة.. إلى عالمٍ آخر تسطر ملامحه بنفسها.. عالم أكثر إشراقاً ومستقبل لا يعبث بالأنقياء مثلها.. هي شجاعة فرغم تعاستها لا تعبئ بكل ما يستوطنها من مدن الحزن والسواد.. تطأ بأطراف أقدامها كل أزقة الألم سعياً لفسحة أمل لتكتب حكاية أخرى مختلفة. حكاية لا تنام فيها أحلام الصغار على الرصيف، ولا يبحر أمثالها في مدن الحزن. حكاية لا يرفرف عليها الألم بأجنحة من قش. حكاية لا يلفظ فيها الفقراء إلى منافي الوحشة، ولا يفترش الصغار أحلامهم البريئة.. حكاية تكتب بأهازيج من ماء.. وأعراس من فرح..

تبقى الصغيرة إلى ما قبل الغروب بقليل.. يبدأ المطر بالهطول من جديد.. تلملم نفسها وتشق طريق العودة فرحة.. تتلو تعاويذ المطر، ويبحث الحلم عن مستقرٍّ في قلبها.. تغنّي طوال الطريق للأمنيات التي لا تموت..

تقف أمام باب الدار وتتمتم بابتسامة: (ما زال هناك متسع وقتٍ للحُلم)..!!!

  1. مارس 14, 2008 عند 5:07 ص

    Yes, there is time to dream
    and to read your sad and
    wonderfull words from your big heart.
    me

  2. مارس 17, 2008 عند 1:29 ص

    هو الحلم فقط
    لا أسفله
    ولا أعلاه

  3. medaad
    مارس 18, 2008 عند 8:11 م

    Me..
    every single time you passing through my blog.. you bring me happiness and drew a smile on my face..
    thanks dear..

    alanany
    لطالما كانت الأحلام أجمل من الواقع دوماً..
    كن بخير أيها العزيز…

  4. spartan
    مارس 26, 2008 عند 11:38 م

    هذه البنت لا تشعر بالكآبة أو بالحزن ، فقلبها كبقية الأطفال أبسط الأشياء تجعلها سعيدة ، حتى لو كان قلما وورقة ، بل من المثير للتعجب أنها قد تحوي في قلبها من الأمل مايكفي ليغطي قارة بكاملها

  5. أفريل 8, 2008 عند 9:41 م

    spartan..
    هي كذلك عزيزي هي كذلك.. كم نشعر بالدونية أما هؤلاء النماذج البشرية..
    كن بخير أنس..

  6. salemsaeed
    أفريل 28, 2008 عند 5:20 ص

    قتلتني قصتك ، وأحيتني من جديد آلاف المرات. للحزن مسارات، وهذه القصة خلت له لدي مسارا جديدا.

  7. ماي 8, 2008 عند 10:13 م

    الورقة النقدية المقدمة على قصة (وزهر أينع في يبوس) في مسابقة (قصة وصورة) ضمن موقع دروب الثقافي..
    تداعيات بين نصَّين

    على صفحةٍ من ريحِ الحُلم ، على وجنةٍ تلتقطُ امتحانَ الوقتِ في رَفّةِ اليبابِ المرسومِ بأيادٍ شكلتها الظلمةُ لتُقلِّمَ وجهَ الطفولةِ المسكوبَ على موائد الأرصفة،
    على جرف من هدير العتمة تُدعس نملةُ الحلمِ بحذاء القهر ..
    فتنسلّ الحكايةُ بنغمٍ أزليٍّ يُداعبُ مخيلةَ القابضِ على مفترقِ البدايةِ ..
    تنسلّ بآهةٍ مروضة باختناق ..
    تنسلّ بانبثاقٍ بطيءٍ آخذٍ في التَّفكُّكِ المُمتدِّ ” رويداً رويداً ” على حفيفٍ من مزاميرِ الشعرِ النابضِ الوصف بآلةِ الاشتقاقِ لينبوعِ الألم ..

    ( اختناقٌ لليلٍ وانبلاجٌ لضوءٍ يفضحُ العَوَزَ أم اختناقٌ للهواءِ للصبحِ للطهرانيةِ في صدر الطفولة ؟؟ )

    تربو المسافةُ ـ بين النص والنص ـ المتوارية التكوين كخلفية عموديةٍ للطعن مُشِيحةً أسبابَ القهرِ عن ملامحَ الحكايةِ وكأنَّ العيونَ والأذهانَ استشفتْها فاكتفتْ بسُلطةِ المُتَنَاوَلِ الفَوقيِّ دون الغور حفراً وغوصاً في متن الفجيعة ودون سَبْرٍ وافْتِضَاضٍ لمكنون العتمة ؛

    يا متنَ الفجيعة يا ابتذار المآسي !!
    يا زعزعة المراقي حين لا مرتقىً يَسْلَمُ من كبح المهانة فيك ..
    تستفيضُ ..!! ؟ وما استطاعت زُبُرُ المشيئةِ المنسربةُ في لحنِ المقامرةِ أنْ تَقِفَ عندَّ البابِ .. بابِ الجرحِ الأكبرِ لتذُرَّ المواسي في العيونِ والأذهانِ بقوةِ المجترِحِ للويلِ المساويةِ للقبضةِ لأولى ،
    تستفيضُ .. يا متنَ الفجيعةِ
    كأنَّكَ تُوغِلُ في الخلودِ معْتَلياً عَرَبةَ الدَّهرِ تسومُ المارّ بها سوءَ الطالعِ
    وتجر خلفك حرائق الآهات ،
    تستفيض ولا شيء يُوْلي مرتَعكَ بانقباضٍ يَفْتَضِحُ سعيَكَ الأبديَّ إلا جلالةٌ منْ أملٍ صغيرٍ يَنثرُ عند البابِ أقراطَ حلمٍ مشتهى
    يحاول المثولَ في عيني طفولةٍ ، أقراطٌ أُوِّلَتْ بصوت يحاول الإفلات من محبسه إلى ميقاتِ حرِّيةٍ شكَّلَهُ اليراعُ الريشةُ في مهبِّ اليقينِ المرسلِ بامتثالٍ لاكتساحِ الجنايةِ دون كيفيةٍ بائنةِ الولوجِ لمرتغدِ الحقيقة / الحلم ،
    نعم !! هكذا يلجُ بانبساطةِ الشقاءِ المتراكمِ على الظهور منذ البشرية الأولى
    ليقاربَ شيئا من رغبةٍ جليلةٍ عمادُها خيوطُ ابتسامةٍ رَسَمتْها لغةٌ حاذقةُ التراكيب على مستويين اثنين
    ـ واقعٌ مرٌّ جائرٌ وحلمٌ عائم في نائلةِ المستقبل ـ
    كلاهما يقسمان المَشَاهِدَ الشعريةَ في الحكاية إلى
    ( زهر أينع في يبوس )

    مؤيد أحمد
    24/2/2008

  8. hesso
    جوان 10, 2008 عند 6:21 ص

    إن كانت الصغيرة تنتعل أحذية أيامها اليائسة ..فماذا ننتعل حين نخرج إلى العراء الذي يكبر يوماً بعد يوم لتصير المدينة أكبر وأكبر..ألسنا ننتعل أرواحنا…!

  1. No trackbacks yet.

أضف تعليق