الصفحة الرئيسية > ضحك كالبكاء > مازوخيا ومزامير فجائعية (2)..

مازوخيا ومزامير فجائعية (2)..

(المزمور الرابع..)

الساعة تدقُّ الثالثة بعد منتصف الخيبة بطرقاتٍ تنخر ثقوب رأسي، أرديها بمقدَمِ هامتي.. طرقاً.. طرقاً.. طرقاً.. فأخرجُ ما تبقّى مِن رأسي وأتخلصُ من قدرِ شؤمٍ آخر. يشقُّ اللونُ المعلومُ شاهدَ شتاتي فينسَابُ على أخاديد قناعي المتشقِّقِ المليء بالبثور كمستنقعٍ ضَحِل، ويرتفعُ عدد السَّاقطين من ناصيتي لِيتجاوزَ البابَ المهشّم مِن الخلف عُبوراً يَنزفني مُنذ حقبة الإنكسارِ الأولى. وَيتوالى نزفُ جُمجمتي من مَاء الحُرقة ذَا وجعٍ مُوشومٍ في وَتر الذّاكرة. أحصرُ نفسي في تابوتٍ يضيقُ بي، أحشو الوَجَع في رَأسي.. رُكاماً.. رُكاماً.. أنثرُ الملح جُرحاً يُعرِّش عَلى خَاصرتي وَيتسلّق كتفي الأيمن كطاعونٍ يَنتابني ذَا عُريٌّ مَغصوبٍ على ارتجاجِ النّصل بوحشية.

مبتورِ الأمل أنحو تِجاه المِرآة.. أركلُ تعثَّري بالأرضية المُبتلّة بالأحمرِ القاني، (تباً وهلْ بدأوا بصُنع الأكفان بلونٍ أحمرْ؟!!) وَعَلى وقع أوركسترا أطرافي المَقطوعة منذُ سبعٍ وعشرين شهر شتاءٍ مَضت أركعُ أمامَ كينونتي؛ أتذوّق ظِلّي السّكير وَأرمقُ تلك الوجوهِ الشَّاحبة المُتشكّلة في قَطَراتِ العَرَق التي تنسكبُ من خَدّه المنتوفِ حَدّ التَّعاسة.. يهمسُ ذلك العربيد بخُبثٍ: (يبدو أنهُ حانَ وقتُ حَصادِ الأفكارِ التي لا رَأس لها).. فيُجيبُ وَجهي بِبحّةٍ مُختنقة الصُّوت: (لا.. لمْ أكُنْ أحمَقاً!!)..

فقد كنتُ أستلذُّ بِطعمك.. فيني..!!!

* * *

(المزمور الخامس..)

مَشلول الأصابع مُتكئاً عَلى تَمزُّق الأمكنة حَولي هَا أنذا أنظرُ ظِلّي السكير أمام مرآة مُتجعدة الملامح؛ قناعٌ مثخنٌ بالشّقوق يَعتلي وجههُ المُتصحِّر وخِرقة داكنة السَّواد رقّعها السّديم الموبوء بأرجاء غُرفتي الرّطبة تحتَ نعلِ عينيهِ اللوزيتين. وبمزيدٍ من التمرّغ لثماً للأراض التي عانقت رُوحي تتبعثرُ وِشاحات الجِراح المُمدّدة ويتكئ الليلُ على بؤبؤ عيني طعناً، يَقتات على تعاستي ويطعمني كَفناً علقمهُ لذيذُ المذاق.

أرمقهُ بكلّ شماتة.. كُره.. بُغض.. لُؤم.. حِقد.. وتئزُّ أظافري المنشوبة صَريراً على مَلامح تلك المرآة المتجعّدة في محاولة للتسبّب بأكبر كمية مُمكنة من لذيذ الألم في وَجهه.. إلا أنّ كتلة اللحمِ المُتعفّنة والمنتهية صلاحيتهُ منذُ الموتِ الرابع له ما زال يَبتسمُ بكلّ بلاهة.

هُنيهة وتسقطُ ابتسامتي الصَّفراء – التي يَعلوها الغُبار – من فَمي لتتقوقعَ بُكاءً مرّاً على جيدي. البُكاء؛ هو الشيء الثاني الذي يُتقنُ افتراسي، والأغنيات العتيقة للموت ما تزال هي مُتعتي الأولى دونَ مُنازع. ابتسامتي السَّاقطة من ثَغري تلكَ التي كنتُ أضعها كلما احتجتُ إليها أمامَ الظلال البشرية الأخرى لطالما كانت تفي بالغرض ولطالما كان صاحب الوجه الممهور بالتعاسة يُخرج ابتسامته من جيبه كلما تأتّت الحاجة إليها لينفث صَخباً هادئاً في الجوار بوحيٍّ من ذات المرارة..

* * *

(المزمور السادس..)

منهكٌ أنا حدّ الثمالة والتعب يهرش جلدي آهاً تخرجُ مع كل شهيقٍ.. وزفير، وحنجرتي المبلّلة بريق الليل ما تزال متعطشة للعق دمي.

أتوغلُ في مرآتي في محاولة لبلوغ ذاتي، أزيل أقنعتي قناعاً تلو آخر.. كمن يزيل أكفاناً عن وجه جثّة تعفّنت موتاً. لأكتشف في النهاية مع سقوط آخر أقنعتني.. أن لا وجه لي!!!

* * *

القسم الأول: مازوخيا ومزامير فجائعية (1)..

 

التصنيفات :ضحك كالبكاء
  1. ماي 21, 2008 عند 1:16 ص

    راقت لي المدونة كثيراً

    سأعاود الزياة مراراً لأستمتع بعذوبة الكلمات

    فلها طعم آخر هنا

  2. ماي 21, 2008 عند 1:04 م

    The Beautiful Heart..
    تحية لكِ بقدر جمال قلبكِ..
    يسعدني جداً وجودك في الجوار.. واظبي القدوم لأسعد بكِ..
    بالمناسبة اطلعتُ على مدوّنتك.. يبدو حرفك شجياً..
    كل التقدير..

  3. ماي 21, 2008 عند 10:06 م

    لقد ادخلتني مدونتك وكلماتك بالف حيط
    فاضعت الجواب ولم اعلم ماقرئت
    كونو بخير

  4. ماي 22, 2008 عند 8:05 م

    حامل المسك..
    سلامتك من الحيط يا رجل.. وأهلاً بك كلّ مرّة..
    إذا كانت عندك في الجوار أية علامة استفهام تحوم فوقك حول المدونة يرجى العودة إلى صفحة (شرح مفردات المدونة).. وأي شيء آخر ايميلي مستعد ليتعطر برسائلك أيما وقت..

    كل التقدير

  5. ماي 22, 2008 عند 8:32 م

    من اجمل المدونات التي ابتلعتها عيني .. سأتثقف هنا !

  6. ماي 22, 2008 عند 9:18 م

    فيصل..
    في عرينك ترتيلة أخرى للجموح.. صوتٌ من أثرٍ مترعٍ في التمرُّد.. سأطيل التمعّن هناك.. علّني آتي لنفسي بقبسٍ منك..

    شكر.. يسبقه تحية لمرورك..

  7. Benoo
    ماي 23, 2008 عند 2:10 ص

    إني الآن أتربّع ..
    و بعد ثوان ٍ سأتكيء بجانب حديثك لأرتّل التقدير..

  8. www.ssakhra.wordpress.com
    ماي 23, 2008 عند 3:05 ص

    تحياتي لك نايثن ،

    آمنت بمزاميرك ……

    كل لمحة منك هي باب مفتوح على التأويل ..

    دام لك الإشراق دوما عزيزي ، و المسرة ..

  9. ماي 23, 2008 عند 10:12 م

    Benoo..
    سأسعد بتربّعك للمكان.. وسأترك للصدر منكِ فسحة..
    أهلاً بعطركِ الذي يقتفيكِ من هناك إلى هنا..
    تقدير..

    فجر..
    سعدتُ أكثر بعودتك بعد غياب..
    ربما نتبادل المودّة قريباً على صفحات المسنجر..
    كن بخير..

  10. 3bdulsalam
    ماي 24, 2008 عند 4:06 ص

    عزيزي مداد . . لم يتسنى لي قبلا فرصة التعبير عن الإنبهار بحرفية مزاميرك الفجائعية وطريقة صنعها المحكمة.

    لك تحية
    http://3bdulsalam.wordpress.com

  11. ماي 24, 2008 عند 8:47 م

    3bdulsalam ..
    لا بأس عزيزي هذه الأمور ليست بذات أهمية بيننا.. أنت تشرفني بالقراءة فقط فكيف بلطيف تعليقك!!

    ولأن هذه زيارتك الأولى فأنا مدينُ لقراءي بتعريف بسيط عنك وعن مدونتك:
    السيد عبد السلام لديه مدونة جديدة على الرابط أعلاه يغلب عليه الطابع السياسي والرصانة والجدية في الطرح وهو محاور ماهر متقنٌ للصنعة يغلب عليه الهدوء والروية في أغلب الأحيان لذلك يصبح صديق محاوره أكثر مما يكون نداً له.. سعدتُ بانضمامه مؤخراً لعالم التدوين..

    كل التقدير

  1. أكتوبر 17, 2008 عند 3:36 ص
  2. جانفي 7, 2009 عند 5:06 ص

أضف تعليق